فصل: فَصْلٌ حُكْمِ الِاخْتِيَارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فَصْلٌ حُكْمِ الِاخْتِيَارِ:

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَخْيِيرِهِنَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حُكْمِ الِاخْتِيَارِ تخيير الزوجة. فَإِنْ قِيلَ: عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ وَبَيْنَ اخْتِيَارِ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ، لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ طَلَاقٌ حَتَّى يُطَلِّقَهُنَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ إِنِ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا كَمَا طَلَّقَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الضَّحَّاكِ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الْأَحْزَابِ: 28]. وَالسَّرَاحُ الْجَمِيلُ معناه يَحْتِمَلُ ثَلَاثَةَ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الصَّرِيحُ مِنَ الطَّلَاقِ دُونَ الْكِنَايَةِ لِئَلَّا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثٍ لِتُمْكِنَ فِيهِ الرَّجْعَةُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوَفِّيَ فِيهِ الصَّدَاقَ وَيَدْفَعَ فِيهِ الْمُتْعَةَ، فَإِنْ طَلَّقَ الْمُخْتَارَةَ مِنْهُنَّ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقُهَا بَائِنًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ كَطَلَاقِ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ رَجْعِيًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونَ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَلَّظَ عَلَيْهِ فِي التَّخْيِيرِ، فَيُغَلَّظُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَفِي تَحْرِيمِهِنَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ وَجْهَان:
أحدهما: لَا يَحْرُمْنَ عَلَى التَّأْبِيدِ يَكُونُ سَرَاحًا جَمِيلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ حَرُمْنَ عَلَى الْأَبَدِ، لِأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَلَمْ يَكُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَهَذَا حُكْمُهُنَّ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَخْيِيرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ- وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ-: أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الطَّلَاقِ أَوِ الْمُقَامِ، فَتَخْيِيرُ غَيْرِهِ مَنْ أُمَّتِهِ يَكُونُ كِنَايَةً يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ فِي تَخْيِيرِهَا، وَإِلَى نِيَّةِ الزَّوْجَةِ فِي اخْتِيَارِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ صَرِيحٌ، فَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا كَانَ صَرِيحًا فِي طَلْقِهِ بَائِنٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ صَرِيحًا فِي طَلْقِهِ بَائِنٍ لَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى نِيَّةِ أَحَدٍ مِنْهُمَا، وَلِلْكَلَامِ عَلَيْهِمَا مَوْضِعٌ يَأْتِي. وَأَمَّا تَخْيِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجاته فَفِيهِ وَجْهَان:
أحدهما: أَنَّهُ كِنَايَةٌ لِتَخْيِيرِ غَيْرِهِ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ، لَا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ: لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ عَلَى نَبِيِّهِ، ثُمَّ هَلْ يَكُونُ بَائِنًا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْأَبَدِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، ثُمَّ تَخْيِيرُ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ يُرَاعَى فِي اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ عَلَى الْفَوْرِ فَمَتَى تَرَاخَى اخْتِيَارُهَا بَطُلَ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ فِي تَعْجِيلِ قَبُولِهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَأَمَّا تَخْيِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَفِيهِ وَجْهَان:
أحدهما: يُرَاعَى فِيهِ تَعْجِيلُ الِاخْتِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ تَرَاخَى بَطُلَ حُكْمُهُ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اعْتِبَارِهِ بِقَبُولِ الْهِبَةِ الَّتِي هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ فِيهَا سَوَاءٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ عَلَى التَّرَاخِي لِمَا اخْتَصَصْنَ بِهِ مِنَ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ:- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- حِينَ خَيَّرَهَا: «اسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» فَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لَكَانَ بِالِاسْتِئْمَارِ يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ.

.فصل أَمَّا أَنَّهُ التَّخْيِيرُ فَفِيهَا دَلَائِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أُعْسِرَ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فَلَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتْعَةَ تَجِبُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ.
وَالثَّالِثُ: جَوَازُ تَعْجِيلِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ النفقة، وَكَذَلِكَ تَعْجِيلُ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ قَبْلَ الْوُجُوبِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ السَّرَاحَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا للمطلقة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.مَسْأَلَةٌ في قول الله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}:

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الْأَحْزَابِ: 52]. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ فَاخْتَرْنَهُ، حَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ، وَحَظَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهِنَّ اسْتِبْدَالًا بِهِنَّ، فَخَصَّهُ بِتَحْرِيمِ طَلَاقِهِنَّ وَتَحْرِيمِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَمُكَافَأَةً لَهُنَّ عَلَى صَبْرِهِنَّ مَعَهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ نِسَائِكَ اللَّاتِي خَيَّرْتَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وِرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَهُنَّ التِّسْعُ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ بَعْدَ الْعَاشِرَةِ الَّتِي فَارَقَهَا، فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِنَّ، وَمَمْنُوعًا مِنْ غَيْرِهِنَّ وَإِنَّ أَعْجَبَهُ حُسْنُهُنَّ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّتِي أَعْجَبَهُ حُسْنُهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بَعْدَ قَتْلِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْهَا، فَجَازَاهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ طَلَاقِهِنَّ وَالتَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ، لِأَنَّهُ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَى النِّسَاءِ إِذَا اخْتَرْنَ أَزْوَاجَهُنَّ بَعْدَ أَنْ جَازَاهُنَّ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 29]. وَالْمُحْسِنَاتُ هُنَّ الْمُخْتَارَاتُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ هِيَ الْجَنَّةُ، وَأْنَ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُنِ فِي الدُّنْيَا، وَفَضَّلَهُنَّ عَلَى غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ بِتِسْعِ خِصَالٍ، نَذْكُرُ تَفْصِيلَهَا مِنْ بَعْدُ مَشْرُوحَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ في قول عائشة مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ، قَالَ: كَأَنَّهَا تَعْنِي اللَّاتِي حَظَرَهُنَّ عَلَيْهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرَنَا فِي حَظْرِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَاقِ نِسَائِهِ بَعْدَ تَخْيِيرِهِنَّ، وَتَحْرِيمِ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ، فَأَمَّا تَحْرِيمُ طَلَاقِهِنَّ فَقَدْ كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْ طَلَاقِهِ لِحَفْصَةَ وَاسْتِرْجَاعِهَا وَإِزْمَاعِهِ طَلَاقُ سَوْدَةَ حَتَّى وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَإِنَّمَا كَانَ قَبْلَ التَّخْيِيرِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ النِّكَاحِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَنَسْخِهِ، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ كَانَ ثَابِتًا إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِدَلَالَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الْأَحْزَابِ: 52] وَكَانَ هَذَا عَلَى الْأَبَدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ مُقَابَلَةً عَلَى اخْتِيَارِهِنَّ عَلَى طَرِيقِ الْجَزَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ رُجُوعٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ طَلَاقِهِنَّ بَاقِيًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ بَاقِيًا: لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا جَزَاءٌ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ نُسِخَ حِينَ اتَّسَعَتِ الْفُتُوحُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْآيَةَ} [الْأَحْزَابِ: 50]. وَالْإِحْلَالُ يَقْضِي عَدَمَ الْحَظْرِ، وَلَمْ يُحْظَرْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّكَاحُ قَبْلَ التَّخْيِيرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِحْلَالَ وَالْإِبَاحَةَ بَعْدَ حَظْرِ التَّخْيِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْإِحْلَالُ إِنَّمَا يُوَجِّهُ إِلَى نِسَائِهِ اللَّاتِي خَيَّرَهُنَّ وَاخْتَرْنَهُ- وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ- قِيلَ: لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ قَدْ كُنَّ حَلَالَهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِحْلَالِهِنَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} [الْأَحْزَابِ: 50] وَلَمْ يَكُنْ فِي نِسَائِهِ الْمُتَخَيَّرَاتِ أَحَدٌ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَلَا مِنْ بَنَاتِ عَمَّاتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ نَاسِخًا لِلْمُتَأَخِّرِ. قِيلَ: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ فَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ، فَجَازَ النُّسَخُ بِهَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَةِ: 234] نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [الْبَقَرَةِ: 240] وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ، لَكِنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ؟. قِيلَ: لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي مَوْضِعِ كَذَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَمَرَهُ بِتَقْدِيمِ تِلَاوَةِ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ. قِيلَ: لَسَبْقِ الْقَارِئِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يَعْرِفْ حُكْمَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَجَزَأَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْحَظْرِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ، فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُبِيحَ لَهُ النِّسَاءُ، وَهُمَا بِذَلِكَ أَعْرَفُ: وَلِأَنَّ عِلَّةَ الْحَظْرِ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، فَإِذَا زَالَتْ زَالَ مُوجِبُهَا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ حَتَّى وَسَّعَ عَلَى نِسَائِهِ، وَأَجْرَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَمَانِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَأَرْبَعِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ سِوَى الْهَدَايَا وَالْأَلْطَافِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ نَسْخِهَا، وَأَمَّا الْجَزَاءُ وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِحَالِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ أَنَّ فِي طَلَاقِهِنَّ قَطْعًا لِعِصْمَتِهِنَّ، وَيَخْرُجْنَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ قَطْعٌ لِعِصْمَتِهِنَّ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا ثَبَتَ نَسْخُ الْحَظْرِ مِمَّا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِبَاحَةِ، هَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ أَوْ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ فِي الْآيَةِ. إِذَا هَاجَرْنَ مَعَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَبَنَاتِ عَمَّاتِهِ وَبَنَاتِ خَالِهِ وَبَنَاتُ خَالَاتِهِ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِرِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، قَالَتْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي فَنُهِيَ عَنِّي: لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ: لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا صَفِيَّةَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ فِيهَا، وَلِأَنَّ الْإِبَاحَةَ رَفَعَتْ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْحَظْرِ، وَلِأَنَّهُ فِي اسْتِبَاحَةِ النِّسَاءِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنْ جَمِيعِ أُمَّتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَصِّرَ عَنْهُمْ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابِ: 50]. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّكَاحِ تَخْفِيفًا أَنْ يَنْكِحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ: لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ بَدَأَ بِذِكْرِ مَا خُصَّ بِهِ فِي النِّكَاحِ تَغْلِيظًا، وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: وُجُوبِ التَّخْيِيرِ، وَتَحْرِيمِ الطَّلَاقِ، وَتَحْرِيمِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ مِمَّا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّكَاحِ. ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا خُصَّ بِهِ تَخْفِيفًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِبَاحَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُمَلِّكَهُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُذْكَرُ مَعَ الْعَقْدِ، وَلَا يَجِبُ مِنْ بَعْدُ فَيَكُونُ مَخْصُوصًا بِهِ مِنْ بَيْنِ أُمَّتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْقُطَ مِنْهُ الْمَهْرُ ابْتِدَاءً مَعَ الْعَقْدِ، وَانْتِهَاءً فِيمَا بَعْدَهُ، وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ فِيمَا بَعْدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّمَا اخْتُصَّ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ وَحْدَهُ، وَهُوَ وَأُمَّتُهُ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّمَا خُصَّ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَلَامِ مَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مَوْضِعٌ يَأْتِي، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابِ: 50] وَالْهِبَةُ تَتَمَيَّزُ بِلَفْظِهَا عَقْدًا وَسُقُوطِ الْمَهْرِ فِيهَا بَدَلًا، وَقَدْ جَعَلَهَا خَالِصَةً لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ. وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: {أَنْ وَهَبَتْ} بِالْفَتْحِ وَهُوَ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى، وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى بِالْكَسْرِ، وَهُوَ شُرُوطٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مَوْهُوبَةٌ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ جَعَلَهُ خَبَرًا عَنْ مَاضٍ، قَالَ: قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا هبة المرأة نفسها، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرِ بْنِ ضَبَابٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً. وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ. وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ، امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا، أَوْ شُرِطَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّ تُقْبَلَ مَنْ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا خَالِصَةً مَنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى مَنْ خَالَفَ. وَرُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي مِنْكَ، فَقَالَ: مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهَا هِبَتَهَا.

.فصل مِمَّا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِهِ تَخْفِيفَانِ:

فصل: وَمِمَّا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِهِ تَخْفِيفَانِ: أَنْ يَنْكِحَ أَيَّ عَدَدٍ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ الْآيَةُ} [الْأَحْزَابِ: 50] وَأُحِلَّ لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَنْ أَتَاهَا أَجْرَهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِعَدَدٍ ثُمَّ ذَكَرَ بَنَاتِ عَمِّهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالِهِ وَخَالَاتِهِ مَنْ يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ، وَقَدْ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحُرُّ لِفَضْلِهِ عَلَى الْعَبْدِ يَسْتَبِيحُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ الْعَبْدُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ يَسْتَبِيحُ مِنَ النِّسَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ: النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ. فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى تَحْبِيبِ النِّسَاءِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الِابْتِلَاءِ وَالتَّكْلِيفِ حَتَّى لَا يَلْهُوَ بِمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنَ النِّسَاءِ عَمَّا كُلِّفَ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلَا يَعْجَزَ عَنْ تَحَمُّلِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَكْثَرَ لِمَشَاقِّهِ وَأَعْظَمَ لِأَجْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لِيَكُونَ خَلْوَاتُهُ مَعَهُنَّ يُشَاهِدُهَا مِنْ نِسَائِهِ: فَيَزُولُ عَنْهُ مَا يَرْمِيهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ، فَيَكُونُ تَحْبِيبُهُنَّ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ اللُّطْفِ بِهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ الِابْتِلَاءِ لَهُ، وَعَلَى أَيِّ الْقَوْلَيْنِ كَانَ فَهُوَ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ نَقْصًا، وَهَذَا مِمَّا هُوَ بِهِ مَخْصُوصٌ أَيْضًا.